عقدت “جائزة الدوحة للكتاب العربي” مساء أمس الأحد دورتها التأسيسيّة بوصفها جائزة سنوية مقرّها العاصمة القطرية، ومدارها الكتاب المؤلَّف بالعربية، لتكريم الباحثين ودور النشر والمؤسسات المسهمة في صناعة الكتاب العربي، وفتحت باب الترشح عبر الموقع الرسمي لها، بدءاً من الخامس من الشهر الجاري، حتى الخامس من حزيران/ يونيو 2024.
وجاء في بيان الجائزة أنّها “تسعى إلى تقدير الكتّاب والمؤلفين الذين حقّقت أعمالهم إضافة معرفيّة إلى الثقافة الإنسانية، وتشجيع الناشرين والفاعلين في صناعة الكتاب، تعزيزاً وتطويراً للنشر العربي، ليصبح قادراً على المنافسة العالمية”.
وللجائزة فئتان، الأولى فئة الكتاب المفرد التي تُمنح لكتاب بعينه ضمن الحقول التي تحددها الجائزة، والثانية فئة الإنجاز التي تمنح تكريماً لمسار معرفي للشخص أو المؤسسة الثقافية.
والمجالات المعرفية التي تتبناها الجائزة هي العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية، والدراسات اللغوية والأدبية، والأبحاث التاريخية، والدراسات الاجتماعية والفلسفية والمعاجم والموسوعات وتحقيق النصوص.
وقال المستشار الإعلامي للجائزة عبد الرحمن المري، إنّ الجائزة تأتي في ظل مسارات “كثرت فيها تحديات العلم بين شعوب العالم وحضاراته، ودخلت فيها اللغات -بحسبانها أوعية ثقافية- في تسابق كثيف نحو التصدر في إنتاج الأفكار الأصيلة، ونيل قصب السبق في مجالات المعارف المختلفة”.
عشرة مكرمين
واحتفت الجائزة في هذه الدورة التأسيسية بتكريم نخبة من المتخصّصين في العلوم الإنسانية والشرعية، الذين أثروا المكتبة العربية بالمصنّفات العلمية والأطروحات الفلسفية والتاريخية والدراسات البحثية وهم: المحقّق والمؤرخ أيمن فؤاد سيد من مصر، وأستاذ الفلسفة جيرار جهامي من لبنان، والباحث المتخصص في النقد الثقافي سعد البازعي من السعودية، والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن من المغرب، والمحقّق والباحث في علوم القرن غانم قدوري الحمد من العراق، والمؤرّخة الباحثة في التاريخ الشفوي الفلسطيني فيحاء عبد الهادي من فلسطين، وأستاذ الفقه المقارن والتمويل الإسلامي ومقاصد الشريعة قطب مصطفى سانو من غينيا، والعالم اللغوي محمد أبو موسى من جمهورية مصر العربية، والمؤرخ مصطفى عقيل الخطيب من قطر، والمؤرخ ناصر الدين سعيدوني من الجزائر.
مسارات وشهادات
وتكوّن برنامج إطلاق الجائزة من ندوة صباحية تحت عنوان “حياة للعلم: مسارات وشهادات”، جاءت في جلستين، ضمّت كل واحدة منها خمسة متحدثين ألقوا فيها مساهماتهم حول مسارهم مع الكتاب والكتابة.
استهل العالم اللغوي محمد أبو موسى الجلسة الأولى بالإطلالة على جانب من مسيرته مع البلاغة العربية والتي ابتدأها في مطالع تحصيله العلمي في خمسينات القرن الماضي وكيف بدأ حياته متفرّغاً للقراءة وصار العالَم هو الشغل الشاغل عن كل شيء، قائلاً “رأيت في كلام علمائنا قدحاً صريحاً في الكتاب الذي يُستغنى بقراءة غيره عنه”.
واستفاض من بعده الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في كلمته بحديث حول البواعث العميقة التي دفعته إلى عالم التصنيف الفلسفي محدداً فيها ثنائية الثغر والمرابطة التي وجهت موقفه من التفكير والتأليف، ومما جاء في كلمته قوله “كان حالي ولا يزال أن تملك علي أحداث الساعة الفاصلة في هذه الأمة مداركي ومشاعري” مبيناً في الإطار أن “الكائن الحداثي أصبح كائناً معزولاً عن الأخلاق”.
وسرد المؤرخ ناصر الدين سعيدوني رحلته العلمية التي خاضها بين رحاب الجغرافيا واللغة العربية والتي بدأت أثناء ثورة التحرير في وطنه الجزائر.
وقادته تجربته من بعد إلى التخصص في علم التاريخ، الذي وسم أغلب إنتاجه وقال إن “لإنسان يولد بيولوجياً مرة واحدة لكنه يولد علمياً مرّات عديدة”.
ومن ثم تحدث جيرار جهامي عن سيرته العلمية المتمحورة حول الفلسفة العربية والمنطق، مبيناً أن مسيرته دامت 50 عاماً وما زالت مستمرة في مجال تظهير الفلسفة العربية والإسلامية.
في حين ألقى غانم قدوري الحمد ضوءاً سِيَريّاً على تطور اهتمامه بالدراسات القرآنية والعلوم الشرعية حتى بلوغه درجة الاختصاص.
وفي الجلسة الثانية، تناول المؤرخ القطري مصطفى عقيل الخطيب تحول اهتماماته نحو التاريخ ولا سيّما التاريخ في الخليج العربي، قائلاً إنّه بدأ تكوينه العلمي في مجلس والده، و”بحكم البيئة والعلمية التي تربيت فيها ثم الدراسة في المعهد الديني في الدوحة، أصبحت الدراسة العليا هاجساً لي فأكملتها في القاهرة” مختتماً “من علّمني حرفاً صرت له تلميذاً، فالعبودية تنتهي وتبقى التلمذة خالدة”.
وجاءت كلمة المحقّق والمؤرخ أيمن فؤاد سيد ساردة مدارج ارتقائه في علمي التاريخ والتحقيق، وتعالقهما، مستشهداً بأولى تجاربه مع الوثائق والتي وصل بها إلى ذروة تحقيقه لكتب تاريخية وأدبية مركزية في تراث الثقافة الإسلامية
وقال إنه لازم مجلس العلامة محمود محمد شاكر لمدة ثلاثين عاماً، وفيه “تعرفتُ إلى عدد كبير من العلماء الذين أضافوا الكثير لمسيرتي العلمية، واستفدتُ من منهجية الفرنسيين في البحث بمعظم كتبي التي صدرت بعد بعثتي الدراسية في باريس”.
التاريخ في غزّة
وقدمت الباحثة فيحاء عبد الهادي كلمتها حول دور المرأة الفلسطينية الجوهري في النضال التحرّري المستمر منذ الاحتلال، قائلة إنّها في غزّة الآن تكتب الرواية الفلسطينية التاريخية بدمها ولحمها الحي.
ومما جاء من مسيرتها ذكرها كتابة الشعر في السجن الإسرائيلي، وقالت إنّها أرسلت ما كتبته “للشهيد غسان كنفاني فنشره في مجلة “الهدف” وكانت هي البداية.
واستعاد سعد البازعي أولى ذكرياته مع الكتاب والتي تطوّرت بنحو كبير بعد الدراسة في الولايات المتحدة الأميركية حيث تعرّف إلى مدارس النقد المختلفة، وتوّج هذه المعرفة برؤية منهجيّة تجاه المنتج الثقافي غير العربي، تمتاز بالانفتاح الذي يوازن بين مرجعية الانتماء إلى الثقافة العربية وضرورات القراءة التي تفرضها منجزات الثقافات الأخرى.
واختتم قطب مصطفى سانو كلمات الجلسة الثانية بكلمة أودع فيه عصارة حياته في تحصيل العلم الشرعي، التي بدأها في قريته الصغيرة في جمهورية غينيا مروراً بدراسته في السعودية، معبراً عن اعتزازه بانتمائه إلى ثقافة الضاد الواسعة، مبيناً “في جامعة الملك سعود كانت بدايتي الفعلية على يد معلمي محمد رواس قلعجي الذي علمني كيف أكتب”.
وفي كلمة باسم المكرمين ألقتها في حفل التدشين المسائي قالت فيحاء عبد الهادي إن “تكريمنا يأتي اليوم في مكانه وزمانه تماماً، خاصة في هذا الوقت الذي شهدنا به تدمير المحتل الإسرائيلي جامعات غزّة وإتلاف آلاف الوثائق التاريخية القديمة والمكتبات والجامعات والمتحف الوطني الذي نهب قبل تدميره” مضيفة “هم يدمرون ونحن نبني” ومستشهدة بقصيدة أحمد شوقي:
“رُبَّ بانٍ لهادمٍ وَجَموعٍ- لمُشِتٍّ ومحسنً لمُخِسِّ